الرئيسية » الصحة النفسية » حوار مُتَخَيَّل مع جبران خليل جبران .. غريد الشيخ

حوار مُتَخَيَّل مع جبران خليل جبران .. غريد الشيخ

رسم صورة جبران خليل جبران: غريد مصطفى جحا

… وقال:

(لكم لبنانُكم.. ولي لُبناني..

لكم لبنانُكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.

ومَن هم يا تُرى أبناء لبنانكم؟

ألا فانظروا هنيهةً لأريكم حقيقتهم.

هم الذين وُلِدَت أرواحُهم في مستشفيات الغربيّين.

هم الذين استيقظت عقولُهم في حضنِ طامعٍ يُمَثِّلُ دورَ أريحيّ.

هم تلك القضبان اللّيّنة التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار ولكن بدون إرادة، وترتعش في الصباح وفي المساء ولكنّها لا تدري أنّها ترتعش.

هم تلك السّفينة التي تصارع الأمواج وهي بدون دفّة ولا شراع، أمّا ربّانها فالتّردد، وأما ميناؤها فكهفٌ تسكنُه الغيلان، أو ليست كلُّ عاصمة في أوروبا كهفًا للغيلان؟

هم الأشدّاء الفُصَحاء البُلَغاء، ولكن بعضهم لدى بعض، والضّعفاء الخرسان أمام الطامعين في أحلامنا.

هم الأحرار المُصلِحون المُتَحمِّسون، ولكن في صحفهم وفوق منابرهم، والمنقادون أمام الغربيين.

هم الذين يضّجعون كالضّفادع قائلين: لقد تملّصنا من عدوّنا الطّاغية القديم، وعدوّهم القديم الطاغية ما برح يختبئ في أجسادهم.

هم الذين يسيرون أمام الجنازة مزمّرين راقصين، حتى إذا ما التقوا موكب العرس تحول تزميرهم إلى نواح ورقصهم إلى قرع الصدور وشق الأثواب.

هم الذين لا يعرفون المجاعة إلا إذا كانت في جيوبهم، فإذا ما التقوا من كانت مجاعته في روحه ضحكوا منه وتحولوا عنه قائلين: ما هذا سوى خيال يسير في عالم الأخيلة.

هم أولئك العبيد الذين تبدل الأيام قيودهم المصدأة بقيود لامعة فيظنون أنهم أصبحوا أحرارا مطلقين.

هؤلاء هم بعض أبناء لبنانكم ، فهل بينهم من يمثل العزم في صخور لبنان أم النبل في ارتفاعه أم العذوبة في مائه أم العطر في هوائه؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: إذا ما مت تركت وطني أفضل قليلا مما وجدته عندما ولدت؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان أو دمعة بين أجفانه أو ابتسامة على ثغره؟

هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فما أكبرهم في عيونكم وما أصغرهم في عيني..).

قلت: ومن هم أبناء لبنانكم؟

قال: (هم الفلاحون الذين يُحَوِّلون الوعر إلى حدائق وبساتين.. هم الرُّعاةُ الذين يقودون قطعانهم من وادٍ إلى وادٍ، فتنمو وتتكاثر وتعطيكم لحومها غذاء وصوفها رداء.

هم الكرّامون الذين يعصرون العنب خمرًا ويعقّدون الخمر دبسًا.

هم الآباء الذين يربّون أنصاب التوت، والأمّهات اللواتي يغزلنَ الحرير.

هم الرّجال الذين يحصدون الزرع، والزوجات اللواتي يجمعن الأغمار.

هم البنّاؤون والفخّارون والحائكون وصانعو الأجراس والنواقيس.

هم الشعراء الذين يسكبون أرواحَهم في كؤوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنَّى والزَّجل.

هم الذين يغادرون لبنان والحماسة في قلوبهم والعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكفِّهم وأكاليل الغار على رؤوسهم.

هم الذين يتغلَّبون على محيطهم أينما حلّوا، ويجتذبون القلوب إليهم أينما وجدوا.

وهم الذين يموتون في الأكواخ، ويموتون في قصور العلم، هؤلاء هم أبناء لبنان. هؤلاء هم السرج التي لا تُطفِئُها الرياح، والملح الذي لا تفسده الدهور.

هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال.

لكم لبنانكم ولي لبناني..

لكم لبنانكم وأبناء لبنانكم، فاقتنعوا به وبهم إن استطعتم الاقتناع بالفقاقيع الفارغة، أما أنا فمقتنع بلبناني وأبنائه، وفي اقتناعي عذوبة وسكينة وطمأنينة..)

قلت: ضعف في نفوسنا.. وضعف في لغتنا العربية.. تمددت اللهجات العامية حتى تكاد تصبح لغة الإعلام والإعلان، وبعض الكتابات التي يتفاخر أصحابها بأنها لهجتهم.. ناهيك عن دخول اللهجات المحلية إلى الشعر، الذي بات يخص كل دولة ويبعد مضامينه عن الأقطار الأخرى! هل تتغلب اللغة العربية الفصحى على اللهجات العامية المختلفة ولوحدها؟

قال: (إن اللهجات العامية تتحوَّر وتتهذّب ويدلك الخشن فيها فيلين، ولكنها لا ولن تغلب، ويجب ألا تغلب، لأنها مصدر ما ندعوه فصيحًا من الكلام، ومنبت ما نعدّه من البيان. إن اللغات تتبع؛ مثل كلّ شيء آخر، سنَّةَ بقاءِ الأنسب. وفي اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه أقرب إلى فكرة الأمّة، وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة. قلت: سيبقى، وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة، ويصير جزءاً من مجموعها).

قلت: وما هي خير الوسائل لإحياء اللغة العربية؟

قال: إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة، هي في قلب الشاعر، وعلى شفتيه وبين أصابعه، فالشعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم البحث، وما يقره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين.

الشاعر أبو اللغة وأمها، تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى جلست على قبره باكية منتحبة حتى يمر بها شاعر آخر و يأخذ بيدها.

وإذا كان الشاعر أب اللغة وأمها، فالمقلّد ناسج كفنها وحفّار قبرها.

أعني بالشاعر كلّ مخترع، كبيرًا كان أو صغيرًا، وكل مكتشف، قويًّا كان أو ضعيفًا، وكل مختلق، عظيمًا كان أو حقيرًا، وكل محبّ للحياة المجردة، إمامًا كان أو صعلوكًا، وكل من يقف مُتَهَيِّبًا أمام الأيام والليالي، فيلسوفًا كان أو ناطورًا للكروم.

أما المقلّد فهو لا يكتشف شيئًا ولا يختلق أمرًا، بل يستمدُّ حياته من أثواب من تقدمه.

قلت: جبران خليل جبران، تسيطر عليك طبيعتان متفوقتان: طبيعة الفنان الوجداني المرهف الحس والشعور، وطبيعة المرشد والمصلح والواعظ.

قال: أنسج عالمي من نفسي، كما تنسج دودة القز فيلجتها من خيوط في أحشائها.. أما دأبي في الحياة فهو التفتيش عن مواطن الضعف والوجع في الناس.

قلت مقاطعة: حتى إذا وقفت عليها انطلقت تندد وتبكت وتؤنب، وقد ينتهي لك الأمر بأن تصنف ما تعتقده الدواء الأوحد الأنجح!

قال: كنت مؤمناً ومستعداً أن أجرد كل ما لدي من سلاح وعتاد لأخوض المعركة، واثقاً أنني سأصرع التنين في النهاية.

قلت: لقد اتخذت من الإقطاعيتين؛ السياسية والدينية، اللتين كانتا تسودان لبنان أهم المواضيع للقصص التي كتبتها.

قال: نعم، إن مواضيعي تكاد تنحصر في اثنتين: جور التقاليد البشرية فيما حللته من العلائق بين المرأة والرجل، وجور الحكام المدنيين والدينيين في علاقتهم مع الجماهير التي ندعوها الشعب.

قلت: فاخترت من تحب ومن تبغض؟

قال: أحب الناس إلى قلبي هو ابن الفطرة وابن الطبيعة، أكان راعي أبقار أم كان حرّاثاً أم عاملاً لا سلاح في يده غير المعول.

وأبغض الناس إليّ هم الذين يتظلمون أبناء الفطرة والطبيعة، فيهضمون حقوقهم ويمتهنون كرامة الناس فيهم، ويقدمون إليهم السم في الدسم.

قلت: لذلك لم تصور في كل ما صورت راعياً قبيحاً أو فلاحاً خسيساً أو عاملاً شريراً، ولا صورت حاكماً عادلاً أو كاهناً تقياً أو راهباً في قلبه شيء من الإيمان والشفقة.

قلت: أحببت موطنك الصغير حباً يقارب الهيام؟

قال: نعم.. ففي جبال لبنان التي لا نظير لها بين الجبال تفتحت عبقريتي.. ومن ألوان أغساقها الحالمة، وأسحارها الساحرة استمدت ألوان إلهامها.

قلت: اقرأ لي قصيدة أغنية الليل التي غنتها فيروز كأجمل ما يكون الغناء..

قال: حسناً..

(سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام

وسع البدرُ وللبدر عيون ترصد الأيام

فتعالي يا ابنة الحقل نزور كرمة العشاق

علنا نطفي بذياك العصير حرقة الأشواق

أسمع البلبل ما بين الحقول يسكب الألحان

في فضاء نفخت فيه التلول نسمة الريحان

لا تخافي يا فتاتي فالنجوم تكتم الأخبار

قلت: وتطالب قلبك بعد هذا أن يكتم هواه إن خذلته المحبوبة..

قال: نعم.. أقول بالله يا قلبي… أكتم هواك

وفي الذي تشكوه.. عمـّن يراك

تغنم.. تغنم.. من باح بالأسرار

يشابه الأحمق

فالصمت والكتمان.. أحرى بمن يعشق

بالله.. بالله.. يا قلبي

بالله يا قلبي.. إذا أتاك

مستعلم يسأل عـما دهاك

فاكتم.. فاكتم.. يا قلب إن قالوا

أين الذي تهواه؟

قل قد سبت غيري.. ثم ادّعِ السلوى

بالله.. بالله.. يا قلبي

بالله يا قلبي استر جواك

فما الذي يضني إلا دواك

فاعلم.. فاعلم.. الحــب بالأرواح

كخمرة في الكأس.. مادان منها ناس

وما خفي أنفاس

بالله.. بالله.. يا قلبي

بالله يا قلبي.. احبس عناك

إن غطّـت الإبحار.. أو هدت الأفلاك

فاسلم.. فاسلم.. بالله يا قلبي فاسلم)

قلت: جبران خليل جبران كتبت كثيراً وأعطيت كثيراً، ونبشت في خفايا البشر والمجتمعات، وكشفت عيوب المخلوقات.. طارت شهرتك في البلاد.. ما الذي يبقى من الإنسان؟

قال:

(كتبت في الجزر سطراً على الرمل

أودعته كل روحي مع العقل

وعدت في المد أقرا وأستجلي

فلم أجد في الشواطئ سوى جهلي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *