هي .. و الانتظار
دقت الساعة الثانية عشر في منتصف الليل … و هي ما زالت تنتظر قدومه بكل لهفة و اشتياق … كلما أحست بهمس أو تخيلت سماع صوت أقدام تأتي من بعيد .. يرتجف قلبها و تتصارع دقاته .. تأخذ أنفاسها بسرعة .. تنطق شفتيها دون أن تتحدث .. جلست تحدث نفسها .. ما سبب تأخيره عنها ؟ .. الملل يقطع من عينيها الدامعة الخائفة قطع من الخوف و اليأس … تخاف أن لا يأتي بعد انتظار سنوات .. و في لحظة من لحظات الأمل القادم من أعماق مشاعرها .. تذكرت آخر لقاء بينهما و كيف كان اللقاء بكل تفاصيله .. فما زالت ملامحه تراود ذاكرتها المتسولة على أرصفة الفكر .. ما زالت محتفظة بكل شئ بينهما .. و في هذه اللحظات رمقت برمش عينيها صورته المعلقة على الجدران .. تتأمل ملامحه و تحدث الصورة بكل جوانحها .. و ها هي الآن في لحظة ترقب … لحظة اشتياق .. لحظة أمل يعيد لها الحياة من جديد .. كل شئ من حولها ثابت لا يتغير ..لم يتبقى سواها تدور في دائرة الذاكرة المحتلة لعقلها منذ سنوات … الذاكرة التي كانت كل يوم تنهش من جسدها الضعيف كل يوم قطعة .. حتى أصبحت كأوراق الشجر في الخريف تتساقط من عمرها كل يوم ذكرى ملقاة على أرض الأحلام .. و فجأة : استيقظت من غيبوبتها الحالمة على صوت أحد هناك يطرق الباب .. تقدمت نحو الباب ببطء شديد و كأنها تخشى شئ ما .. تقدمت و هي ترتجف رجفة إنعاش لقلبها .. مدت يديها لتفتح الباب و كأنها تنتشل جثة الأيام و الانتظار من بحر الأوهام .. و عندما فتحت الباب : وجدت شخص ما غريب عنها .. سألها عن اسمها ؟ فأجابته بإيماءة رأس نعم أنا هي : أعطاها الرسالة و رحل .. أغلقت الباب بسرعة و قامت بفتح الرسالة بعد أن أخذت نفس عميق جدا .. فوجدت مكتوب بداخلها ” أعتذر عن الحضور فـ كل شئ نصيب ” … راحت تقرأ الرسالة مرات و مرات و قدماها ثقيلتان لم تستطيعا الصمود … حتى سقطت على الأرض مغشي عليها … و بيديها الرسالة و أصابعها الرقيقة تتمايل كالنسيم .. و في عينيها دمعة غائبة في معقل الدموع … نعم انتظرته سنوات و سنوات و في النهاية قضى عليها الانتظار .. و كأن الرسالة كانت بمثابة رصاصة الرحمة التي قتلت آخر أمانيها
.الانتظار :
هو الموت القاتل ببطء.. نشعر بأرواحنا و كأنها تصعد للسماء و تهبط للأرض … يشبه في طياته الحنين و العذاب في نفس الوقت … الانتظار قد يكون نهايته رحمة أو ألم … قد ننتظر و يطول الانتظار بلا فائدة … قد ننتظر و نشتاق لإنسان غائب أو بعيد عنا .. نشتاق لسماع صوته و رؤيته أو حتى أن نعرف أخباره من الغير … كم منا من انتظر كثيرا .. و من منا لا يلتفت للهاتف في كل دقيقة منتظر رسالة أو مكالمة …. كثيرا ما نشتاق الأشياء و لا تأتي .. قد ننتظر قدوم الفرحة من القدر … و قد ننتظر قدوم شئ لا نريده .. و المؤلم حقا أن تنتظر شئ و أنت تعلم بداخلك أنه لن يأتي … و لكنك تشعر بمتعة الألم في انتظاره و كأنه حلم بداخلك … كذلك انتظار الموت يجعلك تموت قبل أن يأتي الموت إليك … فهناك الكثير من الناس يعيشون بأجسادهم فقط بدون الروح .. وكأنهم أشباح … يسيرون على الأرض بدون إحساس … الانتظار هو الانتظار … قد يعلمنا الصبر .. و قد يقتلنا ببطء دون أن ندري.. الفراق لن يقتلنا .. و لكن الانتظار قد يقطعنا قطع صغيرة كالنجوم المتبعثرة في السماء … الانتظار هو المرض الذي يحتل جسدنا و مشاعرنا لسنوات … فكم منا من يحتاج إلى رصاصة الرحمة هذه … لكي تنقذنا من ألم الانتظار
د/ هاني الجبالي